تقرير : منصور مجاهد
في زمنٍ كانت فيه كرة القدم تائهة بين التكتيك الدفاعي والانتصارات القبيحة، وبين مدربين يقدّسون النتائج أكثر من الأداء، ظهر شابٌ من سانتبيدور ليُعيد للعبة روحها، فكان العالم الكروي يعيش تحت سيطرة جوزيه مورينيو ومارشيلو ليبي ورافائيل بينيتيز، واليونان كانت قد فازت بأمم أوروبا بأسلوبٍ دفاعي بحت، كانت الكرة بحاجة إلى ثورة، فجاء بيب جوارديولا ليقودها، ويحوّل المستطيل الأخضر إلى مختبرٍ للأفكار والفلسفات.
ومع اقتراب حلول مباراة ليفربول ومانشستر سيتي، يصل بيب إلى المباراة رقم 1000 في مسيرته التدريبية، رحلةٌ امتدت من برشلونة إلى بايرن ميونخ، ثم إلى مانشستر سيتي، رحلةٌ أعادت رسم خريطة كرة القدم الحديثة، رحلة يسرد فيها 365 scores بنسخته العربية فلسفته وبداياتها ويجيب على سؤال كيف غير جوارديولا وجه كرة القدم الحديثة.

كرة القدم على أعتاب التحول.. وبيب العبقري الذي قرأ المستقبل
مع بداية الألفية الجديدة، كانت كرة القدم تمر بمرحلة انتقالية صامتة، تتشكل ملامحها دون أن يدركها كثيرون، تحسّنت جودة الملاعب بشكلٍ لافت، وظهرت تقنيات جديدة في صناعة الكرات والأحذية الرياضية، ما منح اللاعبين قدرةً أكبر على التحكم والدقة والسرعة، بالتوازي مع ذلك، غيّرت التعديلات القانونية — وعلى رأسها تطوير قاعدة التسلل وتشديد العقوبات على الالتحامات من الخلف — شكل اللعبة جذريًا.
تراجعت الخطوط الدفاعية قليلًا إلى الخلف، فزادت المساحات بين الخطوط، وأصبح من الصعب على المدافعين تقييد صانعي اللعب المهاريين، في تلك اللحظة بالذات، كان هناك رجل واحد فقط رأى الصورة كاملة: بيب جوارديولا.

أدرك أن المستقبل لن يكون في الركض خلف الكرة، بل في امتلاكها والتحكم في المساحات الخالية، وأن السيطرة على “الفراغ” قد تصبح أهم من السيطرة على “الخصم”.
ولادة حقبة جديدة من المتعة على يد الفيليسوف
منذ ذلك الوعي المبكر، تغيّرت روح اللعبة إلى الأبد، فقبل عام 2008، لم تشهد مرحلة خروج المغلوب في دوري أبطال أوروبا سوى موسمٍ واحدٍ تجاوز فيه متوسط الأهداف ثلاثة أهداف في المباراة الواحدة، لكن بعد الثورة التي قادها جوارديولا في برشلونة، تحوّل المشهد كليًا — لم يمر سوى موسم واحد بعد ذلك دون أن يتجاوز هذا المعدل الثلاثة أهداف، تحوّلت كرة القدم إلى عرضٍ هجومي ممتع، سريع الإيقاع ومليء بالأفكار.
لم يكن لأحد تأثير مماثل على شكل اللعب منذ أيام الهولندي رينوس ميشيلز، الذي نقل فلسفته إلى العالم عبر تلميذه يوهان كرويف.. وصولًا إلى جوارديولا، الذي بدوره أعاد إنتاج الفكرة وصاغها وفق متطلبات العصر.
ومع ذلك، تبقى كرة القدم — رغم ما تحمله من فن وإبداع — جوارديولا فشل أحيانًا في تحقيق دوري الأبطال لكن هذا لا يلغي بدوره قيمته كأعظم مفكرٍ في كرة القدم الحديثة.
لكن اللعبة لديها معيارها الواضح للفوز وهو الأهداف، الفوز يعني تسجيل أكثر مما تستقبل، وأحيانًا تكون النتائج أقسى من أن تعكس عمق الفكرة، ومع كل ذلك، لا يمكن تجاهل أن بيب — رغم عبقريته — فشل في مواسم أوروبية حاسمة، لأن أفكاره كانت تسبق خصومه أحيانًا بخطوات أكثر مما تحتمل اللحظة.
برشلونة.. ولادة التيكي تاكا والأفكار الجديدة
حين تولى جوارديولا تدريب برشلونة في 2008، لم يأتِ بشعاراتٍ جديدة بل بفكرٍ مغاير كليًا، استلهم من معلمه يوهان كرويف فكرة “الكرة الشاملة”، لكنه أضاف إليها بعدًا جديدًا: التحكم في المساحات عبر الاستحواذ.
ابتكر مفهوم “المهاجم الوهمي” حين وضع ليونيل ميسي في قلب الهجوم المتحرك، فخلق شكلاً جديدًا من الهيمنة، حيث يدافع الفريق بالكرة ويهاجم بها في آنٍ واحد.
في أربع سنوات، حقق بيب 14 لقبًا، وجعل برشلونة آلة موسيقية متناغمة تُدار بإيقاعٍ كتالوني ناعم، لكنها قاتلة، أصبحت “التيكي تاكا” أسلوبًا لا يُنسى، وجعلت من كرة القدم فنًا ناطقًا بالتفكير.
بايرن ميونخ.. من التيكي تاكا إلى الاستحواذ الديناميكي
عندما انتقل إلى ألمانيا عام 2013، لم يحاول جوارديولا استنساخ برشلونة، بل أعاد ابتكار نفسه، في بايرن، واجه ثقافة كروية مختلفة قائمة على القوة البدنية والسرعة، فحوّلها إلى منظومة تفكيرٍ تعتمد على التمركز والمرونة.

حوّل فيليب لام من ظهير إلى محورٍ متقدم، وخلق مفهوم “الظهير العكسي” الذي غيّر طريقة اللعب في أوروبا، رغم أن الحلم الأوروبي استعصى عليه هناك، إلا أن بصمته الفكرية بقيت راسخة: جعل الألمان يؤمنون أن الاستحواذ ليس رفاهيةً بل سلاحًا.
مانشستر سيتي.. الثورة تنتقل إلى قلب إنجلترا
في صيف 2016، استقبلت الصحافة الإنجليزية خبر انتقال بيب لتدريب مانشستر سيتي بعبارةٍ ساخرة:
“مرحبًا بك في دوريٍ لن تجد فيه جرناطة أو فرانكفورت”.
لكن الفيلسوف الإسباني لم يأتِ ليقلّد أحدًا ولا ليشغل باله بالإعلام، وعلى الرغم من الإخفاق في موسمه الأول، إلا أنه في موسمه الثاني، فاز بالدوري الإنجليزي محققًا 100 نقطة، محطمًا الأرقام القياسية في الأهداف والانتصارات.
ومع مرور السنوات، أصبح مانشستر سيتي فريقًا يتحدث لغة بيب الخاصة، الظهير الذي يتحول إلى لاعب وسط والمدافع الذي يصنع اللعب من الخلف، فيبقى جون ستونز في نهائي الأبطال مثالٌ على عبقريته حين استخدمه كمحورٍ إضافي.
ثم جاء المنعطف الكبير في حياة جوارديولا هناك من بلاد الشمال وتحديدً النرويج بعدما تعاقد مانشستر سيتي مع مهاجم بروسيا دورتموند إيرلينج هالاند، فبسببه تخلى بيب عن فلسفة “اللعب بلا رأس حربة” وتبنى العمق المباشر، صار الفريق أكثر قوة وواقعية، وحقق ثلاثية تاريخية (دوري، كأس، أبطال أوروبا).
انتحار تكتيكي أم جرأة فكرية؟
لكن الرحلة لم تخلُ من المقامرات إن جاز وصفها بذلك، فلم تكن إخفاقات جوارديولا دائمًا بسبب سوء الحظ، بل في أحيانٍ كثيرة بسبب هوسه بالتفاصيل، في عام 2019، قرر الدفع بإلكاي جوندوجان كجناحٍ أيسر أمام ليفربول في خطة 4-4-2 غير مألوفة.
وفي 2020، اختار اللعب بثلاثة مدافعين أمام ليون، قبل أن يُقصى الفريق بشكلٍ مفاجئ بسبب رهان بيب، وفي نهائي 2021، استبعد فرناندينيو من التشكيلة الأساسية أمام تشيلسي، في قرارٍ أثار جدلًا واسعًا خسر بسببه الكأس ذات الأذنين.
أُطلق على ذلك لاحقًا مصطلح “الانتحار التكتيكي”، إذ بدا بيب كمن يفكر أكثر من اللازم في لحظاتٍ تتطلب البساطة، لكن الغريب أن نفس المبالغة في التفكير قد تتحول إلى عبقرية تكتيكية حين تنجح — كما حدث في نهائي دوري الأبطال 2023، حين دفع بـ”جون ستونز” في مركز ظهيرٍ وهميٍّ يتقدّم للوسط، وهو قرار وُصف بالعبقري لأنه تُوّج باللقب بسببه.

يبقى الحد الفاصل بين الإبداع والمجازفة عند جوارديولا رفيع للغاية، وربما لهذا السبب تحديدًا، لا يمكن فصله عن مصطلح “الفيلسوف”، فهو المدرب الذي يعيش داخل رأسه أكثر مما يعيش على الخطوط.
جوارديولا ما بين الحلم والفكرة
بيب جوارديولا لم يكن مجرد مدربٍ يطارد الانتصارات، بل رجلٌ يسعى لتغيير الطريقة التي تُفهم بها اللعبة، إنه يؤمن أن كرة القدم ليست معركة عضلية أو تكتيكًا جامدًا، بل حوار دائم بين الفكرة والمساحة.
أخطأ أحيانًا، أصاب كثيرًا، لكنه في النهاية جعل العالم يرى أن المستطيل الأخضر يمكن أن يكون مختبرًا للفكر قبل أن يكون ملعبًا للمنافسة، وهو ما أحدث ثورة في عالم الساحرة المستديرة.
من الاستحواذ للهيمنة إلى الاستحواذ من أجل المساحة
لكن الشاهد في كل ما سبق أن فكر جوراديولا دائما ما يتغير ويتطور في شكل ديناميكي بحت، فتطورت فلسفته مع الزمن، لم يعد يسعى لامتلاك الكرة من أجل الجمال فقط، بل من أجل خلق المساحة والتحكم في الإيقاع، فتراجعت نسبة الاستحواذ في السيتي من 65.5% إلى 61.3%، لكن هذا الانخفاض كان من أجل مصلحة السيتي، فأدى إلى ارتفاع في الهجمات المرتدة والكرات الطولية، ما جعل الفريق يهاجم بعمق أكثر.
والتغيير هنا لا يقف عند حدود الأفكار فقط، بل امتد ليشمل الأدوات أيضًا، فهذا الموسم ضم بيب الجزائري ريان آيت نوري ليمنح الجبهة اليسرى بعدًا هجوميًا جديدًا، وراهن على أسماء مثل تيجاني رايندرز وريان شرقي لبناء نمطٍ أسرع وأكثر عمودية ومباشرة على المرمى، ليبرهن للعالم إنه لا يقتل الفكرة، بل يطوّرها كل موسم.
تلاميذ في حياة بيب جوارديولا
استعان جوارديولا بمحللين و”مهندسي مساحات” داخل جهازه الفني، مهمتهم تحليل تحركات الخصوم بالسنتيمتر، مما جعل سيتي أقرب إلى معمل علمي منه إلى فريق كرة قدم، لكن كما قال السلف، لابد للعلم أن يورث، ولا بد للفكر أن يعيش.

فلم يكن تأثير بيب جوارديولا محصورًا في الأندية التي دربها، بل تجاوزها إلى جيلٍ كامل من المدربين الذين تشكّل وعيهم الكروي على يديه، متأثرًا بفلسفته التدريبية، وعبقريته في استغلال المساحات، والبداية من عند الغريم التقليدي مانشستر يوينايتد:
إريك تين هاج، مدرب مانشستر يونايتد السابق، الذي بدأ مسيرته التدريبية في ظل جوارديولا حين قاد فريق الرديف لبايرن ميونخ أثناء وجود بيب مع الفريق الأول (2013–2015)، ومنذ ذلك الوقت، لم يُخفِ تين هاج إعجابه بفلسفة بيب، مؤكّدًا أنه تعلّم منه كيف يصنع فريقًا يهاجم بالكرة ويهيمن على الخصم بالعقل قبل القوة.

أما مايكل أرتيتا، فقد كان الذراع الأيمن لجوارديولا في مانشستر سيتي بين 2016 و2019، قبل أن ينتقل إلى أرسنال ليبدأ تجربته الخاصة، واليوم يقود أرتيتا مشروعًا يشبه مدرسة بيب في التفكير والبناء، حيث يزاوج بين الصبر التكتيكي والشجاعة الهجومية، في محاولةٍ لإعادة أرسنال إلى قمة جدول البريميرليج، وهو ما نجح فيه بالوقت الحالي.
وفي برشلونة عندما تولى تشافي هيرنانديز تدريب الفريق أكدت الصحافة الإسبانية أنه الامتداد الطبيعي لفكر جوارديولا، العلاقة بينهما بدأت منذ أن كان تشافي لاعبًا شابًا في الفريق الذي قاده بيب داخل الملعب، ثم تحت قيادته كمدرب بين 2008 و2012، وهي الفترة التي جعلت من تشافي أحد أعظم صانعي اللعب في التاريخ، واليوم يواصل الرجلان الخط ذاته في فلسفة تقوم على الاستحواذ والتحكم الكامل في إيقاع اللعب.
أما فينسنت كومباني، القائد السابق لمانشستر سيتي، فقد تحوّل بدوره إلى أحد أبناء مدرسة بيب، بعد سنوات من العمل معه، انتقل إلى التدريب متأثرًا بنظرته الشمولية للعبة، وقاد بيرنلي للعودة إلى الدوري الإنجليزي بأسلوب هجومي جريء، وكما يقول هو نفسه: “جوارديولا هو السبب في رغبتي بأن أصبح مدربًا”، قبل أن يقود العملاق البافاري بايرن ميونخ إلى قمة الدوري الألماني حتى هذه اللحظة.

محطة الألف مباراة.. أرقام تُلخّص عظمة بيب
خاض بيب جوارديولا 999 مباراة خلال مسيرته التدريبية منذ انطلاقها، حقق الفوز في 715 مباراة، وتعادل في 156، وخسر 128 مباراة فقط، ويملك نسبة انتصارات مميزة والتي تبلغ 71.5% من المباريات التي لعبها.
| عدد المباريات | فوز | تعادل | خسارة | نسبة الانتصارات |
| 999 | 715 | 156 | 128 | 71.5% |
على مدار مسيرته المذهلة، خاض بيب جوارديولا 549 مباراة مع مانشستر سيتي، وهو الرقم الأعلى في مسيرته التدريبية مع نادٍ واحد، حقق خلالها 387 انتصارًا، مقابل 79 تعادلًا و83 خسارة، بنسبة فوز مدهشة بلغت 70.4% — وهي من بين الأعلى في تاريخ المدربين على مستوى الدوريات الأوروبية الكبرى.
| عدد المباريات | فاز | تعادل | خسارة | نسبة الفوز |
| 549 | 387 | 79 | 83 | 70.4% |
وببلوغه المباراة رقم 1000 في مسيرته التدريبية، ينضم جوارديولا إلى نخبة نادرة من المدربين في تاريخ اللعبة، ليصبح المدرب الإسباني رقم 11 الذي يصل إلى هذا الرقم الفريد.
وفقًا لإحصائيات 365 Scores بنسخته العربية، يحتل جوارديولا المركز الحادي عشر في قائمة أكثر المدربين الإسبان خوضًا للمباريات، خلف أسماء عريقة مثل: رافا بينيتيز (1207 مباراة)، خوسيه بوردالاس (1180)، جريجوريو مانزانو (1154)، ولويس أراجونيس (1151).

ورغم أن المسافة الرقمية بينه وبين الصدارة لا تزال كبيرة، فإن جوارديولا — بعمره وخبرته الحالية — مرشح بقوة لتجاوز العديد من تلك الأسماء في السنوات المقبلة، خاصة إذا واصل مسيرته بنفس الإيقاع الذي جعل من كل مباراة له درسًا تكتيكيًا جديدًا في عالم التدريب.
| الترتيب | المدرب | عدد المباريات |
| 1 | رافا بينيتيز | 1207 |
| 2 | خوسيه بوردالاس | 1180 |
| 3 | جريجوريو مانزانو | 1154 |
| 4 | لويس أراجونيس | 1151 |
| 5 | ميجيل ألفاريز خوادرو | 1133 |
| 6 | ميجيل آنخيل لوتينا | 1130 |
| 7 | أوناي إيمري | 1082 |
| 8 | خواكين كاباروس | 1081 |
| 9 | أنطونيو إريوندو | 1070 |
| 10 | خوسيه لويس مينديلبار | 1065 |
| 11 | بيب جوارديولا | 1000 (باحتساب مباراة الأحد أمام ليفربول) |
جوارديولا بين عظماء التدريب في العالم
ويعتبر بيب جوارديولا، ثاني أكثر المدربي تتويجًا بالألقاب في تاريخ كرة القدم، بعد السير أليكس فيرجسون، المدرب التاريخي لنادي مانشستر يونايتد، مع فرصة ذهبية أمام جوارديولا لتحطيم هذا الرقم بسبب عمره الصغير نسبيًا وتدريبه لفريق بطلولات مثل مانشستر سيتي.
| المدرب | عدد الألقاب |
| أليكس فيرجسون | 49 |
| بيب جوارديولا | 39 |
| ميرسيا لوشيسكو | 35 |
| فالياري لوبانوفسكي | 33 |
في ليلة الألف.. يكتمل الدرس
في ليلة الألف مباراة، لا يُقاس بيب جوارديولا بعدد الكؤوس، بل بعدد الأفكار التي زرعها في عقول المدربين حول العالم، لقد جعلنا نرى اللعبة بطريقةٍ مختلفة، وحوّلها من صراعٍ على النتيجة إلى رحلةٍ في الفهم والإبداع.
في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بالألقاب، يظل جوارديولا شاهدًا على أن العبقرية لا تُقاس بما تحققه، بل بما تُلهمه، وفي ليلة الألف مباراة.. يكتمل الدرس، وتُكتب صفحة جديدة في كتاب كرة القدم الذي يحمل على غلافه اسم: بيب جوارديولا.. الفيلسوف الذي غيّر قواعد اللعبة.
