كتب : منصور مجاهد
قبل أيام، وبعد الكلاسيكو الذي انتهى بفوز ريال مدريد على برشلونة (2-1) تحديدًا، بدا واضحًا أن الفريق الملكي اخترق دفاعات البلوجرانا بسهولةٍ مدهشة، ضاربًا مصيدة التسلل التي راهن عليها هانز فليك في مقتل، وقتها كتب موقع 365 Scores بنسخته العربية مقالًا بعنوان: “برشلونة في زمن الفيلسوف فليك.. حين يخسر الفريق من أجل نجاح الفكرة”.
كنا قد تساءلنا حينها: هل يختار فليك التمسك بفلسفته المثالية في وقتٍ لا يملك فيه الأدوات اللازمة لتطبيقها؟، وهل يُشبه قراره ذاك اختيار سقراط لتجرّع السم في محكمة أثينا دفاعًا عن فكره؟
اليوم، وبعد مواجهة برشلونة وكلوب بروج في دوري الأبطال التي انتهت بالتعادل الإيجابي 3-3، يبدو أن فليك أجاب عن السؤال بنفسه، قائلًا للعالم: “نعم سأختار الفكرة مهما كان الثمن”.

(المصدر:Gettyimages)
وكأن المدرب الألماني قرر أن يتجرّع السم بيده في انتحار كرويٍ بطيء قد يضع حدًا لمسيرته مع الفريق الكتالوني، أو أنه قرر أن يُكمل تجربته حتى آخر قطرة من السم التكتيكي، في انتحارٍ كرويٍ فلسفي قد يضع حدًا لمغامرته في قلعة كامب نو .
ثلاثة أهداف تفضح الانتحار التكتيكي
مباراة برشلونة أمام كلوب بروج لم تكن مجرد تعادلٍ مثير (3-3)، بل كانت مرآة تعكس عناد فليك في أوضح صوره، فثلاثة من أهداف الفريق البلجيكي جاءت من اختراق مباشر لخط الدفاع المتقدم، بعد تمريرات طولية بسيطة أسقطت فكرة التسلل أرضًا.

حتى بعدما حاول فليك تعديل الوضع، ظل الخلل قائمًا، وكل المؤشرات تقول إن فليك لم يتراجع، بل ضاعف رهانه، هو لا يهرب من الفكرة، بل يتمسك بها أكثر كلما انكشفت هشاشتها، تمامًا كما يفعل الفلاسفة حين تشتد عليهم المحاكمات الفكرية، فيزدادون إيمانًا بما يثير غضب خصومهم.
النيران الصديقة تنقذ برشلونة.. لكن حتى متى؟
رغم الارتباك الدفاعي، يواصل برشلونة تلقي “الهدايا” من خصومه، فبفضل هدفٍ ذاتي أمام كلوب بروج، ارتفع رصيد الفريق الكتالوني إلى 21 هدفًا ذاتيًا لصالحه في تاريخ دوري أبطال أوروبا — رقم لم يحققه أي نادٍ من قبل.
| الترتيب | النادي | عدد الأهداف الذاتية لصالحه |
|---|---|---|
| 1 | برشلونة (إسبانيا) | 21 |
| 2 | ريال مدريد (إسبانيا) | 19 |
| 3 | بايرن ميونخ (ألمانيا) | 18 |
| 4 | تشيلسي (إنجلترا) | 14 |
| 5 | مانشستر يونايتد (إنجلترا) | 13 |
| 6 | باريس سان جيرمان (فرنسا) | 10 |
لكن هذا الرقم، وإن بدا لوهلةٍ طريفًا، يُخفي حقيقةً أكثر مرارة لعشاق البلوجرانا.. برشلونة لم يعد يصنع أهدافه بنفس القوة، بل بات يعتمد على نيرانٍ صديقة تنقذه من السقوط، في إشارة رمزية إلى أن فكر فليك نفسه صار بحاجةٍ إلى “حظ الخصوم” كي يبقى على قيد الحياة.
فليك بين فلسفة الفكر وفلسفة الميدان
عندما تولّى فليك قيادة برشلونة، أعلن منذ اللحظة الأولى أنه لا يساوم على المبادئ فمع أول المباريات له بدا وكأنه يقول : “لن أدرّب فريقًا يلعب بخط دفاع متراجع، الكرة الهجومية تبدأ من الشجاعة، والشجاعة تبدأ من المسافة بين الحارس والمدافع”.

ومن هنا وُلد مشروع “المصيدة الكتالونية الجديدة”، في موسمه الأول، كانت الفكرة ناجحة حد الإبهار، وسجلت 301 حالة تسلل ضد الخصوم في 60 مباراة، أي أكثر من خمس حالات في المباراة الواحدة، الفريق كان متماسكًا، والضغط الجماعي منظمًا، والمسافات قصيرة.
لكن موسم 2025-26 أتى بوجهٍ آخر: الإصابات، تراجع اللياقة، ضعف الانسجام بين كوندي وكوبارسي، وإصرار فليك على نفس الإيقاع، كلها جعلت المصيدة تتحول من نظامٍ دفاعي عبقري إلى كمينٍ للفريق نفسه.
بعد 14 مباراة فقط هذا الموسم، التقطت مصيدة فليك 56 حالة تسلل فقط وانخفض المعدل إلى 4 حالات تسلل في المباراة، قد يبدو الرقم صغيرًا، لكنه في كرة القدم يعني الكثير: قلة الضغط، زيادة المسافات بين الخطوط، بطء العودة الدفاعية، كلها مؤشرات على أن الفريق فقد “الروح المشتركة” التي تجعل الفكرة قابلة للحياة.
الكلاسيكو كان محاكمة في البرنابيو وكلوب بروج أكد الحكم
الكلاسيكو أمام ريال مدريد كان المسرح الأكبر لانهيار المنظومة، برشلونة لعب بخط دفاع متقدم لآخر دقيقة، رغم السرعات الهائلة لفينيسيوس ورودريجو وبيلينجهام.
فكانت النتيجة هدفان من خلف الخط، وخمس فرص محققة كانت كفيلة بجعل النتيجة تاريخية لولا براعة تشيزني، في الموسم الماضي، وقع ريال مدريد في التسلل 12 مرة أمام برشلونة، أما هذا الموسم، فلم يتجاوز العدد 5 حالات فقط.
الفارق هنا ليس رقمًا فحسب، بل دليل على انهيار المفهوم نفسه.
فما كان سلاحًا استراتيجيًا، أصبح اليوم نقطة ضعفٍ واضحة، يعرفها كل خصم ويستغلها بذكاء، وكأن ريال مدريد أقام المحاكمة لبرشلونة وكلوب بروج أكد الحكم بقضاء فاعلية منظومة دفاع الخط لفليك.
كلوب بروج.. تأكيد الانكسار في ليالي الأبطال
مواجهة كلوب بروج جاءت كأنها إعادة للكلاسيكو ولكن بملعبٍ مختلف، المنافس البلجيكي لم يحتج لأكثر من تمريرتين متتاليتين لاختراق الدفاع المتقدم، الأهداف الثلاثة جاءت من كرات طويلة خلف المدافعين، في وقتٍ بدا فيه أراوخو وكوندي كأنهما يطاردان أشباحًا لا تُرى.
حتى بعد أن عدّل فليك خط الوسط بإدخال أولمو على حساب كاسادو لزيادة العمق، ظل الخط الخلفي متقدمًا جدًا، وكأن الأمر تحدٍ شخصي بينه وبين المنطق، وإن كان برشلونة نجا بنقطة، فذلك بفضل هدفٍ ذاتي أراح المدرب مؤقتًا، لكنه لم يُخمد الأسئلة التي تتزايد يومًا بعد يوم.
سقراط وفليك.. حين يتحول الإيمان إلى قيود
سقراط في الفلسفة لم يُعدم لأنه أخطأ، بل لأنه رفض التراجع عن الحقيقة، وفليك في كرة القدم لا يُهاجَم لأنه فاشل، بل لأنه يرفض التنازل عن فكرته، كلاهما مؤمن حتى العمى، وكلاهما يرى في “المرونة” ضعفًا لا فضيلة، لكن في عالم الكرة الحديثة، الإيمان دون تكيّف لا يُنتج نصرًا، بل مأساة.
فالمدرب الذي يصر على الدفاع العالي وهو بلا أدوات بدنية، يشبه القائد الذي يقود معركةً بسيوفٍ مكسورة، وإن كان سقراط قال: “لا حياة بلا فضيلة”، فربما يردّ عليه فليك اليوم دون أن يدري: “ولا تدريب بلا مبدأ” إلا أن التاريخ لا يرحم من يصرّ على السير في طريقٍ واحدٍ حتى الهاوية.
المقامرة الكبرى بين الفكر والبقاء
لكن يبقى السؤال الاهم، ماذا سيحدث في المباريات أمام الفرق الكبرى، فحال واجه برشلونة مانشستر سيتي الذي يملك من العناصر والخبرة ما يكفي ليذيقهم مرارة الهزيمة بنتيجة غير مسبوقة على الاطلاق، لا يمكن لأكثر المتفائلين أن يتخيل ما قد يحدث وقتها.

الفرق بين فليك وسائر المدربين أن فكره بات قضية وجودية، ليست مجرد خطة، بل إيمان، وليست مجرد إصرار، بل قدرٌ يجرّه نحو النهاية، من أجل الدفاع عن منظومة عجزت بالأساس عن الدفاع عنه.
حين يصبح الفكر سُمًّا بيد صاحبه
في كرة القدم الحديثة، من لا يتطور يُدفن، فليك لا يزال يقاتل دفاعًا عن الفكرة التي أحبها، حتى وإن كانت تقتله ببطء، ومهما كانت نواياه نبيلة، فإن الإصرار على المثالية وسط واقعٍ معطوب هو نوع من الانتحار الكروي الواعي.
ربما كتب سقراط في النهاية فصله الأخير بالسم، لكن فليك يبدو مصممًا على كتابة نهايته بـمصيدة التسلل، ومع كل مباراة، يزداد السؤال حدةً بين جماهير برشلونة: “هل يستحق الفكر أن تموت من أجله يا فليك أم آن الأوان لتقتل الفكرة من أجل أن تعيش أنت؟
